العنقري .. الوزيرُ الإنسان - 12 ديسمبر 2014
2021-11-10 609
«أنت في الرأس، فتحمل وجع الرأس»!
كلمة تختزن في داخلها خبرة عقود من العمل الوطني القيادي الريادي.
إنها أشبه بـ(كبسولة) إدارية تمتلك قدرة سحرية على الشفاء من أوجاع الإدارة وأدوائها.
هي نصيحة ذهبية أسر بها إلي معالي الأستاذ الدكتور خالد العنقري لما شكوت له يوما بعض ما لقيت وألقى، فسرتني وسرت عني.
لم تكن هذه الكلمة الموفقة إلا قطرة من فيوضات هذا النهر المتدفق، فقد صاحبته سنوات، وعملت تحت إدارته سنوات، كان وطنيا بامتياز، ورأيت من جميل خصاله، وجليل خلاله، ما كان جديرا بي أن أقوله من قبل عن استحقاق لولا حساسية الموقف الإداري، أما وقد ترجل معاليه عن صهوة جواده، فقد آن الأوان لأن أنشر طرفا من سيرة هذا الرجل ومواقفه.
تولى معاليه وزارة التعليم العالي وهي لا تزال في خطواتها الأولى، وخلال ربع قرن من العمل الدؤوب تحولت الجامعات السعودية إلى مدن متكاملة، بكلياتها ومعاملها وإداراتها وإسكانها، واتسعت رقعة التعليم الجامعي، حتى بلغ عدد جامعاتنا أربعا وعشرين جامعة حكومية، وثماني جامعات أهلية، و494 كلية، تنتشر في 76 مدينة ومحافظة! ولولا الثقة الملكية في شخص معاليه قدرة وتخطيطا وإنجازا وقيادة لما فتحت له خزائن الدولة ليستثمر خيراتها في بناء الإنسان السعودي من خلال التعليم العالي تدريسا وتدريبا وابتعاثا، ولولا الكفاءة التي تميز بها لما استطاع تحقيق كل هذا.
ولقد أكسبت معاليه هذه الخبرة الممتدة معرفة عميقة بالأنظمة، وخبرة عالية بالتراتيب الإدارية، وأشهد أنني طوال عملي الإداري لم أستشره قط في أمر إلا وكانت مشورته عين الصواب، بل يشهد له العارفون أنه طوال عمله الوزاري لم يوجه بتوجيه يخالف الأنظمة، ولا اتخذ إجراء تعارضه القوانين، وتلك مزية قل توفرها في القياديين مثله.
لم تكن الوزارة عند العنقري مجرد منصب إداري مرموق، لقد كانت عنده وسيلة للتعبير عن وطنيته وإخلاصه لبلاده وحبه لقيادتها، وتفانيه في خدمتها، فلذلك أخذها بقوة، وقام بها باقتدار، وأعانه على ذلك حلم يزينه، وسعة صدر تجمله، ولست أحصي المواقف التي تحمل فيها الأذى بصبر واحتساب، ولا تلك التي هب فيها نصرة لضعيف، أو إعانة لمحتاج، أو شفاعة لذي حق.
ولعلي أبوح هاهنا، وفي موقف الوفاء هذا، بموقفين لم أتحدث بهما من قبل، حصلا بحضرة سيدي خادم الحرمين الشريفين ــ أيده الله، وليأذن لي مقامه السامي بروايتهما.
كان أولهما حين التقى ــ حفظه الله ــ مع فريق العمل في مشروع توسعة المطاف في شهر رمضان المبارك من سنة (1432ه)، يومها وجهني ــ حفظه الله ــ بجملة توجيهات، وأثنى ــ يحفظه الله ــ علي ثناء سررت به، فلما انصرفنا قال لي معالي الدكتور خالد: «لقد قال لك خادم الحرمين كلاما لم يقله لبعض الوزراء، ولكن اعلم أن الثناء من خادم الحرمين الشريفين مسؤولية مضاعفة وليس فخرا فحسب، فهذا الرجل يقول الكلمة وهو يعرف أبعادها، ويفترض في سامعها أن يدرك تبعاتها أيضا». إنها لفتة ذهبية من رجل يعرف كيف يتعامل مع كلام العظماء.
والموقف الثاني حصل بعد ذلك بسنوات حين كنا في زيارة لسيدي خادم الحرمين الشريفين، وحين سلمت عليه قال لي: أي جامعة تديرها؟ فقلت له: أم القرى، فقال ــ حفظه الله: «انتبه! لا بد أن تكون على قدر الجامعة، فمكة لها عندنا محبة كبيرة، ومنزلة عظيمة». وحين انصرفنا قال لي معالي الدكتور خالد: «سجل هذه الكلمات وضعها أمامك في المكتب، فهي نبراس، وليست كلاما عابرا». ومرة أخرى هي لفتة ذهبية من رجل يعرف كيف يتعامل مع كلام العظماء.
ذلك هو معالي الأستاذ الدكتور خالد العنقري، الوزير، والقيادي، والوطني، والإنسان، والرجل الذي ترى أثره في كل مكان حل به، كما قال شوقي ــ رحمه الله:
وكن رجلا إن أتوا بعده ... يقولون: مر وهذا الأثر
لقد ترجل اليوم عن منصبه، ولكنه لم يترجل ولن يترجل قط عن وطنيته وخدمته لبلاده وإنسانيته ومآثره.
لقد رحل العنقري الوزير..
وبقي.. وسيبقى.. العنقري الإنسان.